الثلاثاء، 20 مارس 2018

الرد االزُّلال على شبهة محاولة النبي الانتحار بالتردي من شواهق الجبال


الرد االزُّلال على شبهة محاولة النبي الانتحار بالتردي من شواهق الجبال

شبهة أشترك فيها الرافضة والنصارى



قال الألباني راداً على هذه الشبهة في كتابه دفاع عن الحديث النبوي - (ص 40 و41)
قال ( 1 / 55 ) : ( وجزع النبي صلى الله عليه و سلم بسبب ذلك جزعا عظيما حتى أنه كان يحاول - كما يروي الإمام البخاري - أن يتردى من شواهق الجبال )
قلت : هذا العزو للبخاري خطأ فاحش ذلك لأنه يوهم أن قصة التردي هذه صحيحة على شرط البخاري
وليس كذلك وبيانه أن البخاري أخرجها في آخر حديث عائشة في بدء الوحي الذي ساقه الدكتور ( 1 / 51 - 53 )
وهو عند البخاري في أول ( التعبير ) ( 12 / 297 - 304 فتح ) من طريق معمر : قال الزهري :
فأخبرني عروة عن عائشة . . . فساق الحديث إلى قوله : ( وفتر الوحي )
وزاد الزهري : ( حتى حزن النبي صلى الله عليه وسلم - فيما بلغنا - حزنا غدا منه مرارا كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال
فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقى منه نفسه تبدى له جبريل فقال : يا محمد إنك رسول الله حقا
فيسكن لذلك جأشه وتقر نفسه فيرجع فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك فإذا أوفى بذروة جبل
تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك )
وهكذا أخرجه بهذه الزيادة أحمد ( 6 / 232 - 233 ) وأبو نعيم في ( الدلائل ) ( ص 68 - 69 )
والبيهقي في ( الدلائل ) ( 1 / 393 - 395 ) من طريق عبد الرزاق عن معمر به ومن هذه الطريق أخرجه مسلم ( 1 / 98 )
لكنه لم يسق لفظه وإنما أحال به على لفظ رواية يونس عن ابن شهاب وليس فيه الزيادة
وكذلك أخرجه مسلم و أحمد ( 6 / 223 ) من طريق عقيل بن خالد : قال ابن شهاب به دون الزيادة
وكذلك أخرجه البخاري في أول الصحيح عن عقيل به

قلت : ونستنتج مما سبق أن لهذه الزيادة علتين :
الأولى : تفرد معمر بها دون يونس وعقيل فهي شاذة
الأخرى : أنها مرسلة معضلة فإن القائل : ( فيما بلغنا ) إنما هو الزهري كما هو ظاهر من السياق
وبذلك جزم الحافظ في ( الفتح ) ( 12 / 302 ) وقال : ( وهو من بلاغات الزهري وليس موصولا )
قلت : وهذا مما غفل عنه الدكتور أو جهله فظن أن كل حرف في ( صحيح البخاري ) هو على شرطه في الصحة
ولعله لا يفرق بين الحديث المسند فيه والمعلق كما لم يفرق بين الحديث الموصول فيه
والحديث المرسل الذي جاء فيه عرضا كحديث عائشة هذا الذي جاءت في آخره هذه الزيادة المرسلة
واعلم أن هذه الزيادة لم تأت من طريق موصولة يحتج بها كما بينته في ( سلسلة الأحاديث الضعيفة ) برقم ( 4858 )
وأشرت إلى ذلك في التعليق على ( مختصري لصحيح البخاري ) ( 1 / 5 ) يسر الله تمام طبعه
وإذا عرفت عدم ثبوت هذه الزيادة فلنا الحق أن نقول إنها زيادة منكرة من حيث المعنى
لأنه لا يليق بالنبي صلى الله عليه و سلم المعصوم أن يحاول قتل نفسه بالتردي من الجبل
مهما كان الدافع له على ذلك وهو القائل :
( من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالدا مخلدا فيها أبدا )
أخرجه الشيخان وغيرهما وقد خرجته في ( تخريج الحلال والحرام ) برقم ( 447 )
**********************
وقال الألباني في كتابه سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة - (10 / ص 450 و 458) ح 4858 :
.
4858 - ( لما نزل عليه الوحى بـ (حراء) ؛ مكث أياماً لا يرى جبريل ، فحزن حزناً شديداً
حتى كان يغدو إلى ثبير مرة ، وإلى حراء مرة ، يريد أن يلقي نفسه منه ، فبينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذلك
عامداً لبعض تلك الجبال ؛ إلى أن سمع صوتاً من السماء ، فوقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صعقاً للصوت
ثم رفع رأسه فإذا جبريل على كرسي بين السماء والأرض متربعاً عليه يقول : يا محمد ! أنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حقاً
وأنا جبريل . قال : فانصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد أقر الله عينه ، وربط جأشه . ثم تتابع الوحي بعد وحمي ) (1) .
باطل
أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (1/ 196) : أخبرنا محمد بن عمر
قال :
حدثني إبراهيم بن محمد بن أبي موسى عن داود بن الحصين عن أبي غطفان بن طريف عن ابن عباس :
أن رسول الله - 
صلى الله عليه وسلم - لما نزل عليه ...
قلت : وهذا إسناد موضوع ؛ آفته : إما محمد بن عمر - وهو الواقدي - ؛ فإنه متهم بالوضع .
وقال الحافظ في "التقريب" :
"
متروك مع سعة علمه" . وقد تقدمت كلمات الأئمة فيه أكثر من مرة .
وإما إبراهيم بن محمد بن أبي موسى - وهو ابن أبي يحيى ، واسمه سمعان الأسلمي مولاهم أبو إسحاق المدني -
وهو متروك أيضاً مثل الواقدي أو أشد ؛ قال فيه الحافظ أيضاً :
"متروك
" .
وحكى في "التهذيب" أقوال الأئمة الطاعنين فيه ، وهي تكاد تكون مجمعة على تكذيبه ، ومنها قول الحربي :
"
رغب المحدثون عن حديثه ، روى عنه الواقدي
ما يشبه الوضع ، ولكن الواقدي تالف" .
وقوله في الإسناد : "ابن أبي موسى" أظنه محرفاً من "ابن أبي يحيى
" .
ويحتمل أنه من تدليس الواقدي نفسه ؛ فقد دلس بغير ذلك
قال عبد الغني ابن سعيد المصري :
"هو إبراهيم بن محمد بن أبي عطاء الذي حدث عنه ابن جريج ، وهو عبد الوهاب الذي يحدث عنه مروان بن معاوية ، وهو أبو الذئب الذي يحدث عنه ابن جريج" .
واعلم أن هذه القصة الباطلة قد وقعت في حديث عائشة في حكايتها رضي الله عنها قصة بدء نزول الوحي
على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، مدرجة فيه عند بعض مخرجيه ، ووقعت في "صحيح البخاري" عن الزهري بلاغاً
فقد أخرجه (13/ 297-303) من طريق عقيل ومعمر عن ابن شهاب الزهري عن عروة عنها ؛ وجاء في آخر الحديث :
"وفتر الوحي فترة ؛ حتى حزن النبي - 
صلى الله عليه وسلم - - فيما بلغنا - حزناً غدا منه مراراً كي يتردى
من رؤوس شواهق الجبال ... " الحديث نحو رواية الواقدي .
وظاهر سياق الحديث في "البخاري" أن هذه الزيادة من رواية عقيل ومعمر كليهما !
لكن حقق الحافظ أنها خاصة برواية معمر
بدليل أن البخاري قد ساق في أول "الصحيح" رواية عقيل ، وليس فيها هذه الزيادة .
وأقوى منه : أن طريق عقيل أخرجها أبو نعيم في "مستخرجه"
من طريق يحيى بن بكير - شيخ البخاري في أول الكتاب - بدونها
وأخرجه مقروناً - كما هنا - برواية معمر ، وبين أن اللفظ لمعمر .
وكذلك صرح الإسماعيلي أن الزيادة في رواية معمر .
وأخرجه أحمد ، ومسلم ، والإسماعيلي ، وأبو نعيم من طريق جمع من أصحاب الليث بدونها . قال الحافظ :
"
ثم إن القائل : "فيما بلغنا" هو الزهري ، ومعنى الكلام : أن في جملة ما وصل إلينا من خبر رسول الله - 
صلى الله عليه وسلم - في هذه القصة
وهو من بلاغات الزهري وليس موصولاً . ووقع عند ابن مردويه في "التفسير" من طريق محمد بن كثير عن معمر
بإسقاط قوله : "فيما بلغنا" ، ولفظه : "فترة حزن النبيصلى الله عليه وسلم - منها حزناً غدا منه ..." إلى آخره ،
فصار كله مدرجاً على رواية الزهري عن عروة عن عائشة . والأول هو المعتمد" .

قلت : يعني : أنه ليس بموصول ، ويؤيده أمران :
الأول : أن محمد بن كثير هذا ضعيف ؛ لسوء حفظه - وهو الصنعاني المصيصي - ؛ قال الحافظ :
"صدوق كثير الغلط" .وليس هو محمد بن كثير العبد ي البصري ؛ فإنه ثقة .
والآخر : أنه مخالف لرواية عبد الرزاق : حدثنا معمر ... التي ميزت آخر الحديث عن أوله ، فجعلته من بلاغات الزهري .
كذلك رواه البخاري من طريق عبد الله بن محمد : حدثنا عبد الرزاق ...
وكذلك رواه الإمام أحمد (6/ 232-233) : حدثنا عبد الرزاق به .
ورواه مسلم في "صحيحه" (1/ 98) عقب رواية يونس عن ابن شهاب به دون البلاغ ، ثم قال :
وحدثني محمد بن رافع : حدثنا عبد الرزاق ... وساق الحديث بمثل حديث يونس
مع بيان بعض الفوارق اليسيرة بين حديث يونس ومعمر ، ولم يسق الزيادة .
ولولا أنها معلولة عنده بالانقطاع ؛ لما استجاز السكوت عنها وعدم ذكرها ؛ تفريقاً بين الروايتين أو الحديثين
مع أنه قد بين من الفوارق بينهما ما هو أيسر من ذلك بكثير !
فدل هذا كله على وهم محمد بن كثير الصنعاني في وصله لهذه الزيادة ، وثبت ضعفها .

ومما يؤكد ذلك : أن عبد الرزاق قد توبع على إسناده مرسلاً ، فقال ابن جرير في "تاريخه" (2/ 305 - دار المعارف) :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا ابن ثور عن معمر عن الزهري قال :
فتر الوحي عن رسول الله - 
صلى الله عليه وسلم - فترة ، فحزن حزناً شديداً ، جعل يغدو إلى رؤوس شواهق الجبال ليتردى منها ... الحديث .
وابن ثور : اسمه محمد أبو عبد الله العابد ، وهو ثقة .
فثبت بذلك يقيناً وهم محمد بن كثير الصنعاني في وصله إياها
.
فإن قيل : فقد تابعه النعمان بن راشد فقال : عن الزهري عن عروة عن عائشة به نحوه . أخرجه الطبري (2/ 298-299) ؟!
فأقول : إن حال النعمان هذا مثل حال الصنعاني في الضعف وسوء الحفظ ؛ فقال البخاري :
"في حديثه وهم كثير" . وفي "التقريب" :"صدوق سيىء الحفظ" .
قلت : وفي حديثه هذا نفسه ما يدل على سوء حفظه ؛ ففيه ما نصه :

"ثم دخلت على خديجة فقلت : زملوني زملوني . حتى ذهب عني الروع ، ثم أتاني فقال : يا محمد !
أنت رسول الله - قال : - فلقد هممت أن أطرح نفسي من حالق من جبل ، فتبدى لي حين هممت بذلك
فقال : يا محمد ! أنا جبريل وأنت رسول الله . ثم قال : اقرأ . قلت : ما أقرأ ؟ قال :
فأخذني فغتني ثلاث مرات ؛ حتى بلغ مني الجهد ، ثم قال : (اقرأ باسم ربك الذي خلق) فقرأت ... " الحديث !!
قلت : فجعل النعمان هذا الأمر بالقراءة بعد قصة الهم المذكور
وهذا منكر مخالف لجميع الرواة الذين رووا الأمر دونها ، فذكروه في أول حديث بدء الوحي
والذين رووها معه مرسلة أو موصولة ؛ فذكروها بعده .
ومن ذلك : ما أخرجه ابن جرير أيضاً (2/ 300-301) قال : حدثنا ابن حميد قال :
حدثنا سلمة عن محمد بن إسحاق قال : حدثني وهب بن كيسان مولى آل الزبير قال :
سمعت عبد الله بن الزبير وهو يقول لعبيد بن عمير بن قتادة الليثي : حدثنا يا عبيد !
كيف كان بدء ما ابتدىء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من النبوة حين جاء جبريل عليه السلام ؟
قلت ... فذكر الحديث ، وفيه - بعد الأمر المشار إليه - :
قال : "فقرأته . قال : ثم انتهى ، ثم انصرف عني ، وهببت من نومي ، وكأنما كتب في قلبي كتاباً .
[قال : ولم يكن من خلق الله أحد أبغض إلي من شاعر أو مجنون ، كنت لا أطيق أن أنظر إليهما ! قال : قلت :
إن الأبعد - يعني : نفسه - لشاعر أو مجنون ؟! لا تحدث بها عني قريش أبداً
لأعمدن إلى حالق من الجبل فلأطرحن نفسي منه ، فلأقتلنها فلأستريحن] . قال :
فخرجت أريد ذلك ، حتى إذا كنت في وسط الجبل ؛ سمعت صوتاً من السماء ..." الحديث .
ولكن هذا الإسناد مما لا يفرح به ، لا سيما مع مخالفته لما تقدم من روايات الثقات ؛ وفيه علل :
الأولى : الإرسال ؛ فإن عبيد بن عمير ليس صحابياً ، وإنما هو من كبار التابعين ، ولد في عهد النبي - 
صلى الله عليه وسلم - .
الثانية : سلمة - وهو ابن الفضل الأبرش - ؛ قال الحافظ : "صدوق كثير الخطأ"
قلت : ومع ذلك ؛ فقد خالفه زياد بن عبد الله البكائي ؛ وهو راوي كتاب "السيرة" عن ابن إسحاق
ومن طريقه رواه ابن هشام ، وقال فيه الحافظ : "صدوق ثبت في المغازي" .
وقد أخرج ابن هشام هذا الحديث في "السيرة" (1/ 252-253) عنه عن ابن إسحاق به
دون الزيادة التي وضعتها بين المعكوفتين [ ] ، وفيها قصة الهم المنكرة .
فمن المحتمل أن يكون الأبرش تفرد بها دون البكائي ، فتكون منكرة من جهة أخرى ؛ وهي مخالفته للبكائي
فإنه دونه في ابن إسحاق ؛ كما يشير إلى ذلك قول الحافظ المتقدم فيهما .
ومن المحتمل أن يكون ابن هشام نفسه أسقطها من الكتاب ؛ لنكارة معناها
ومنافاتها لعصمة النبيصلى الله عليه وسلم - ؛ فقد أشار في مقدمة كتابه إلى أنه قد فعل شيئاً من ذلك ، فقال (1/ 4) :
".. وتارك ذكر بعض ما ذكره ابن إسحاق في هذا الكتاب ؛ مما ليس لرسول الله - 
صلى الله عليه وسلم - فيه ذكر ...
وأشياء بعضها يشنع الحديث به ... " .وهذا كله يقال على احتمال سلامته من العلة التالية ؛ وهي :
الثالثة : ابن حميد - واسمه محمد الرازي - ؛ وهو ضعيف جداً ،
كذبه جماعة من الأئمة ، منهم أبو زرعة الرازي .

وجملة القول ؛ أن الحديث ضعيف إسناداً ، منكر متناً ، لا يطمئن القلب المؤمن لتصديق هؤلاء الضعفاء فيما نسبوا إلى رسول الله - 
صلى الله عليه وسلم - من الهم بقتل نفسه بالتردي من الجبل ، وهو القائل - فيما صح عنه - :
"من تردى من جبل فقتل نفسه ؛ فهو في نار جهنم يتردى فيها خالداً مخلداً فيها أبداً" . متفق عليه : "الترغيب" (3/ 205) .
لا سيما وأولئك الضعفاء قد خالفوا الحفاظ الثقات الذين أرسلوه .
وما أشبه هذا المرسل في النكارة بقصة الغرانيق التي رواها بعض الثقات أيضاً مرسلاً ووصلها بعض الضعفاء
كما بينته في رسالة لي مطبوعة بعنوان : "نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق"
فراجعها تجد فيها - كما في هذا الحديث - شاهداً قوياً على ما ذهب إليه المحدثون :
من أن الحديث المرسل من قسم الحديث الضعيف ؛ خلافاً للحنفية ؛ لا سيما بعض المتأخرين منهم
الذين ذهبوا إلى الاحتجاج بمرسل الثقة ولو كان المرسل من القرن الثالث !
بل غلا أحدهم من المعاصرين فقال : ولو من القرن الرابع (2) ! وإذن ؛ فعلى جهود المحدثين وأسانيدهم السلام !

هذا ؛ ولقد كان الباعث على كتابة هذا التخريج والتحقيق : أنني كنت علقت في كتابي
"مختصر صحيح البخاري" - يسر الله تمام طبعه - (1/ 5) على هذه الزيادة بكلمة وجيزة
خلاصتها أنها ليست على شرط "الصحيح" ؛ لأنها من بلاغات الزهري .
ثم حكيت ذلك في صدد بيان مزايا المختصر المذكور
في بعض المجالس العلمية في المدينة النبوية في طريقي إلى الحج أو العمرة سنة (1394)
وفي عمرتي في منتصف محرم هذه السنة (1395) وفي مجلس من تلك المجالس
ذكرني أحد طلاب الجامعة الإسلامية الأذكياء المجتهدين - ممن أرجو له مستقبلاً زاهراً في هذا العلم الشريف
إذا تابع دراسته الخاصة ولم تشغله عنها الصوارف الدنيوية - أن الحافظ ابن حجر ذكر في "الفتح" :
أن ابن مردويه روى زيادة بلاغ الزهري موصولاً ، وذكر له شاهداً من حديث ابن عباس من رواية ابن سعد ؟
فوعدته النظر في ذلك ؛ وها أنا قد فعلت ، وأرجو أن أكون قد وفقت للصواب بإذن الله تعالى .
وإن في ذلك لعبرة بالغة لكل باحث محقق ؛ فإن من المشهور عند المتأخرين :
أن الحديث إذا سكت عنه الحافظ في "الفتح" فهو في مرتبة الحسن على الأقل ، واغتر بذلك كثيرون
وبعضهم جعله قاعدة نبه عليها في مؤلف له ، بل وألحق به ما سكت عنه الحافظ في "التلخيص" أيضاً !!
وكل ذلك توسع غير محمود ؛ فإن الواقع يشهد أن ذلك ليس مطرداً في "الفتح" ؛ بله غيره
فهذا هو المثال بين يديك ؛ فقد سكت فيه على هذا الحديث الباطل ، وفيه متهمان بالكذب عند أئمة الحديث
متروكان عند الحافظ نفسه ! وقد سبق له مثال آخر - وهو الحديث (3898) -
وقد أشرت إليه في التعليق على "مختصر البخاري" (1/ 277) ؛ يسر الله تمام طبعه . آمين .
***********************
على أن هناك مؤشرات تدل على ضعف هذه القصة ، فمن تلك المؤشرات :
ما رواه الإمام البخاري عن عروة أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي 
صلى الله عليه وسلم حدثته أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم :
" هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد ؟ قال : ( لقد لقيت من قومك ما لقيت
وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة ، إذ عرضت نفسي على بن عبد يا ليل بن عبد كلال ، فلم يجبني إلى ما أردت
فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب..) الحديث .
فهنا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن أشد ما وقع عليه ، هو ذلك الأذى النفسي الحاصل من تكذيب أهل الطائف له
حتى إنه بقي مهموماً حزيناً لم يستفق إلا وهو بعيد عن الطائف ،
نعم ، إن حزن النبي صلى الله عليه وسلم على فتور الوحي ثابت في نصوص أخرى
غير أن حزنه ما كان ليبلغ حد الرغبة في إلقاء نفسه من علو ، وإلا لكان هذا أجدر بالذكر من حادثة الطائف المذكورة هنا .
ومما يبيّن ضعف القصة : أن الرواية ذكرت أن سبب حزن النبي 
صلى الله عليه وسلم ومحاولته للانتحار
إنما كان خوفاً من انقطاع الوحي والرسالة ، ولو كان هذا صحيحاً
لكان ظهور جبريل عليه السلام مرة واحدة وقوله : ( إنك لرسول الله حقا ) كافياً في تأكيد أنه مبعوث إلى العباد
وتحقّق الاصطفاء له، فلا معنى لأن يدخل الحزن في قلبه وأن يحاول الانتحار مرات ومرات – كما في رواية الزهري –.
فالحادثة المذكورة قد اجتمع فيها الشذوذ في السند ، والنكارة في
المتن ، فلا معنى لأن تُتخذ مطعنا في النبي الكريم .
ومع هذا كله ، وبفرض صحة هذه القصة جدلا ، فليس فيها ما يعيب شخص النبي 
صلى الله عليه وسلم أو يقدح في عصمته
وبيان ذلك أنه قد همّ – على فرض صحة الرواية- بأن يلقي بنفسه ، والهمّ هنا لم ينتقل إلى مرحلة التنفيذ
وذلك شبيهٌ بما حكاه الله تعالى عن يوسف عليه السلام في قوله : { ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه }
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في منهاج السنة :
" ولهذا لما لم يذكر عن يوسف توبة في قصة امرأة العزيز ، دلّ على أن يوسف لم يذنب أصلا في تلك القصة " .
وهذا كحديث النبي صلى الله عليه وسلم :
( ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة ، فإن عملها كتبت له واحدة أو يمحوها الله ) متفق عليه .
وأيضاً : فإن تحريم قتل النفس لم يكن نازلاً في شريعته صلى الله عليه وسلّم ، إذ القصّة في بداية أمر الوحي
فكيف تكون تلك الحادثة - على فرض صحّتها - مدخلاً للطعن فيه صلّى الله عليه وسلّم ؟ .
ثم نقول : إن العصمة متحققة في هذه الحالة ، ووجه ذلك أن الله
سبحانه وتعالى صرف عنه هذا السوء
كما صرف عنه قبل مبعثه حصول التعري ، وشرب الخمر ، والجلوس مع فتيان قريش ، وغير ذلك مما هو مبثوث في السيرة .
وهكذا يتبيّن لك أخي القارئ أن هذه الشبهة ليس لها أدنى حظ من النظر ، فلا هي ثابتة سنداً
ولا هي صالحةٌ للطعن في من شهد له أعداؤه قبل محبيه بسمو أخلاقه ورجاحة عقله وطهارة روحه.
وقال تعالى :
{فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا } [مريم: 23]
فهذه الصديقة الطاهرة مريم عليها السلام مرت بموقف تمنت الموت .
فعلم أن تمني الموت لبعض المواقف لا ينقص من قدر المتمني
.
**************************
(1)تقدم الحديث برقم ( 1051 ) ، وما هنا فيه فوائد زوائد . ( الناشر )
(2)انظر " قواعد في علوم الحديث " للشيخ التهانوي ( ص 138 - 164 ، 450 ) ، وراجعه؛ فإنك ستجد فيه العجب العجاب من المخالفة لما عليه المحدِّثون !

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق