الثلاثاء، 10 أبريل 2012

علم الجرح والتعديل

علم الجرح والتعديل
أبو حميد عبدالملك بن ظافر الماجوني الكوسوفي


المقدمة:
إنَّ الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومِن سيِّئات أعمالنا، مَن يهدِه الله؛ فلا مضلَّ له، ومُن يضلل؛ فلا هاديَ له
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد:
فإنَّ أصْدق الحديث كتابُ الله، وخير الهَدي هَدي محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وشرَّ الأمور مُحْدثاتها، وكل مُحْدَثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وبعد:
فهذه نُبْذة لطيفة - إن شاء الله تعالى - عن أهمية عِلم الجرح والتعديل، نشأته وتطوره ومشروعيته وفوائده، حيث نسأله - تعالى - أن ينفعَنا، وينفع قارِئها، إنَّه سميع قريب مجيب.
أهمية علم الجرح والتعديل:
لقد منَّ الله - عزَّ وجلَّ - على الأمَّة الإسلامية بنِعم كثيرة لا تُحصى ولا تُعدّ، ومن تلك النِّعم أنه جعلها خيرَ الأمم أُخرِجت للناس، ودِينها خاتم الأديان وأكملها
ونبيّها خاتم الأنبياء وسيِّدهم، كما أنه - سبحانه وتعالى - تكفَّل بحفظ وحيها من التحريف والتبديل؛ فقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]
والذِّكْر هنا يعمُّ القرآن والسنة؛ لأنَّ السنة أيضًا وحي مُنَزَّل من الله - تعالى - فقال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 - 4]
وهي المبينة للقرآن، وقد سمَّاها الله - تعالى – ذِكرًا؛ فقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44].

بَيْد أنه لا يمكن العمل بالقرآن بمعزل عن السُّنة، وهذا الذي جعل مكحولاً يقول: "القرآن أحوجُ إلى السُّنَّة مِن السُّنة إلى القرآن". [1]
فالسنة هي المبينة لمراد الله - عزَّ وجلَّ - من مجملات كتابه، والدالَّة على حدوده، والميسرة له، والهادية إلى الصراط المستقيم، صراط الله الذي مَن اتبعها اهتدى
ومن سلك غير سبيلها ضلَّ وغوى، وولاَّه الله ما تولَّى.
ومِن آكدِ آلات السُّنن المعينة عليها، والمؤدِّية إلى حفظها: علم الجرح والتعديل.
وعلم الجرْح والتعديل الذي يختصُّ بالرواة غالبًا من أدقِّ علوم السُّنة، وأجلِّها قدرًا؛ لأنَّ المعوّل عليه في قَبول السنة أو ردِّها
وهو السند بشكل أساسي الذي يتكوَّن بمجموعة من الرجال، الذين يتناقلون الحديث المروي عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم.
ولم يكن هذا القَبول أو الردُّ دون قواعدَ ولا ضوابط؛ بل إنَّ علماء هذا الفنِّ قد تتبعوا تواريخَ الرجال
ووقفوا على أخبارهم بدقَّة، وكانوا متجرِّدين للحقّ، ولم تأخذهم في الله لومةُ لائم.

فمن وجدوه عدلاً عدَّلوه، ومَن ثبت لهم أنه مجروح جرحوه، ولم يراعوا في جميع ذلك أيَّة اعتبارات شخصية، اللهمَّ إلاَّ الإخلاص لله تعالى
والاحتياط لحفظ سُنَّة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم.
ولو لم يكن منها إلا التنبيهُ إلى المقصرين في علم السُّنة على ما لم يثبت؛ فضلاً على ما هو مكذوب على رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ليجتنبوه
ويحذروا من العمل به، واعتقاد ما فيه، وإرشاد الناس إليه - لكَفَى وشَفَى.
إذًا؛ ليس عجبًا إكثار العلماء - رحمهم الله - من البيان لأحوال الرُّواة، وهَتْك أستار الكذَّابين، ونفيهم عن حديث رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - انتحال المبطلين
وتحريف الغالين، وافتراء المفترين، وهم - رحمهم الله - قاموا بأعظمِ الجِهاد، لا سيَّما في زمن بداية ظهور الفساد.

وهم حقًّا كانوا عدولَ هذه الأمة في حَمْل العلم، وأدائه، وممن يُرجع إلى اجتهادهم في التوثيق والتضعيف، والتصحيح والتزييف.
والحقُّ أحقُّ أن يُتَّبع، فجزاهم الله عن هذا الدِّين وأهله كلَّ خير.

علم الجرح والتعديل
نشأته وتطوره عبر القرون

اُعتبر أصحاب النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - هم أوَّلَ مَن تكلَّم في علوم السُّنة عمومًا، وعلم الجرح والتعديل خاصَّة، فكانوا - - يتَّخذون الضوابط اللازمة لصيانة حديث رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم.
فكانوا يتثبتون فيما يُنقل إليهم، فلا يقبلونه إلاَّ بشاهد، وكان أحدُهم يسافر شهرًا لسماع حديث رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -
وكان أحدُهم يصْحَب النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - على مِلْءِ بطنه، حتى يجمعَ ما استطاع من حديث رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم.
وقد كان أبو بكر الصِّدِّيق - - أوَّل مَن فتَّش عن الرجال من الصحابة[2]، فقصتُه مع الجَدَّة في طلب ميراثها مشهورة.[3]
ثم كان بعده عمر بن الخطاب، ثم بعده علي بن أبي طالب[4] - ا - فهلمَّ جرًّا، وهذا يدلُّ دلالة واضحة على أنَّ التحري والتوقي في رواية الحديث
والسؤال والتفتيش عن الرِّجال قد بدأ في فترة مبكِّرة.

وهناك من صِغار الصحابة أيضًا مَن جَرَح عددًا من الرواة لَمَّا انتشرتِ الفتن، وظهر أصحاب الأهواء، منهم عبدالله بن عباس - ا.
روى الإمام مسلم في مقدمة صحيحه (1/13) بإسناده إلى مجاهد أنَّه قال: "جاء بشير بن كعْب العدوي إلى ابن عباس
فجعل يُحدِّث، ويقول: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فجعل ابن عبَّاس لا يأذن لحديثه، ولا ينظر إليه
فقال (بشير): يا ابن عبَّاس، ما لي لا أراك تسمع لحديثي؟ أحدِّثك عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولا تسمع!
فقال ابن عباس: "إنَّا كنَّا مرة إذا سمعْنا رجلاً يقول: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ابتدرتْه أبصارُنا، وأصغَيْنا إليه بآذاننا
فلمَّا ركب الناس الصعب والذلول؛ لم نأخذْ من الناس إلاَّ ما نعرِف".
وروى بسنده أيضًا عن محمد بن سيرين (1/15):
"لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلمَّا وقعتِ الفتنة؛ قالوا: سمُّوا لنا رجالكم، فيُنظر إلى أهل السُّنة، فيؤخذ حديثُهم، وينظر إلى أهل البدع، فلا يُؤخذ حديثهم".

قال ابنُ حِبَّان: "ثم أخذ مسلكَهم، واستنَّ بسُنتهم، واهتدى بهديهم فيما استنُّوا من التيقظ من الروايات جماعةٌ من أهل المدينة من سادات التابعين
منهم: سعيد بن المسيب، والقاسم بن محمد بن أبى بكر، وسالم بن عبدالله بن عمر، وعلى بن الحُسين بن على، وأبو سلمة بن عبدالرحمن بن عوف
وعبيدالله بن عبدالله بن عتبة، وخارجة بن زيد بن ثابت، وعروة بن الزبير بن العوَّام، وأبو بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام، وسليمان بن يسار.
فجدُّوا في حِفْظ السُّنن، والرحلة فيها، والتفتيش عنها، والتفقُّه فيها، ولَزِموا الدِّين، ودعوة المسلمين.

ثم أخذ عنهم العِلم، وتتبع الطُّرق، وانتقاء الرجال، ورحل في جمْع السنن جماعةٌ بعدهم، منهم: الزهري، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وهشام بن عُرْوة
وسعد بن إبراهيم في جماعة معهم من أهل المدينة، إلاَّ أنَّ أكثرَهم تيقظًا، وأوسعهم حفظًا، وأدومهم رحلة، وأعلاهم همة: الزهري - رحمة الله عليه.

ثم أَخَذ عن هؤلاء مسلكَ الحديث، وانتقاد الرجال، وحِفْظ السُّنن، والقدْح في الضعفاء - جماعةٌ من أئمة المسلمين، والفقهاء في الدين، منهم:
سفيان بن سعيد الثوري، ومالك بن أنس، وشُعْبة بن الحجَّاج، وعبدالرحمن بن عمرو الأوزاعي، وحمَّاد بن سَلَمة، واللَّيْث بن سعد، وحمَّاد بن زيد، وسُفيان بن عُيينة، في جماعة معهم.

إلاَّ أنَّ من أشدهم انتقاء للسنن، وأكثرهم مواظبة عليها، حتى جعلوا ذلك صناعةً لهم لا يشوبونها بشئ آخر ثلاثة أنفس: مالك، والثوري، وشُعْبة.

ثم أخذ عن هؤلاء بعدهم الرسم في الحديث، والتنقير عن الرِّجال، والتفتيش عن الضعفاء، والبحْث عن أسباب النقل جماعة، منهم:
عبدالله بن المبارك، ويحيى بن سعيد القطَّان، ووكيع بن الجرَّاح، وعبدالرحمن بن مهدي، ومحمد بن إدريس المطلبي الشافعي، في جماعة معهم
إلاَّ أنَّ من أكثرهم تنقيرًا عن شأن المحدِّثين، وأتركهم للضعفاء والمتروكين، حتى جعلوا هذا الشأنَ صناعةً لهم لم يتعدوها إلى غيرها
مع لزوم الدِّين والورع الشديد، والنفقة في السُّنن، رجلان: يحيى بن سعيد القطَّان، وعبدالرحمن بن مهدي.

ثم أُخِذ عن هؤلاء مسلكُ الحديث والاختبار، وانتقاء الرِّجال في الآثار، حتى رحلوا في جمْع السنن إلى الأمصار، وفتَّشوا المدن والأقطار
وأطلقوا على المتروكين الجَرْح، وعلى الضعفاء القَدْح، وبيَّنوا كيفية أحوال الثقات والمدلِّسين، والأئمَّة والمتروكين، حتى صاروا يُقتدَى بهم في الآثار
وأئمَّةً يَسلك مسلكَهم في الأخبار جماعةٌ، منهم: أحمد بن حنبل - - ويحيى بن معين، وعلي بن عبدالله المديني، وأبو بكر بن أبي شَيْبة
وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي، وعُبيدالله بن عمر القواريري، وزهير بن حرب، وخيثمة، في جماعة من أقرانهم، إلاَّ أنَّ من أورعِهم في الدِّين
وأكثرهم تفتيشًا على المتروكين، وألْزمهم لهذه الصناعة على دائم الأوقات منهم - كان أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني - رحمة الله عليهم أجمعين.

ثم أخذ عن هؤلاء مسلكَ الانتقاد في الأخبار، وانتقاء الرِّجال في الآثار - جماعةٌ، منهم: محمد بن يحيى الذهلي النيسابوري، وعبدالله بن عبدالرحمن الدارمي
وأبو زُرْعة عُبَيدالله بن عبدالكريم بن يزيد الرازي، ومحمد بن إسماعيل الجعفي البخاري، ومسلم بن الحجَّاج النيسابوري
وأبو داود سليمان بن الأشعث السِّجْستاني في جماعة من أقرانهم، أمعنوا في الحِفْظ، وأكثروا في الكتابة، وأفْرَطو في الرِّحْلة، وواظبوا على السُّنة والمذاكرة
والتصنيف والمدارسة، حتى أخذ عنهم مَن نشأ بعدَهم من شيوخنا هذا المذهب، وسَلَكوا هذا المسلك
حتى إنَّ أحدهم لو سُئل عن عدد الأحرف في السُّنن لكلِّ سُنَّة منها، عدَّها عدًّا، ولو زِيد فيها أَلِف أو واو، لأخرجها طوعًا، ولأظهرها ديانة
ولولاهم لدرستِ الآثار، واضْمَحَلَّتِ الأخبار، وعلا أهلُ الضلالة والهوى، وارتفع أهلُ البِدع والعمى، فهُم لأهل البدع قامعون، بالسُّنن شأنَهم دامغون..."[5]

تعريف الجرح والتعديل:
1- الجرْح لغةً: التأثير في البدن بشقٍّ أو قطع، واستعير في المعنويات بمعنى التأثير في الدِّين أو الخُلُق بأوصاف يناقضهما.[6]
واصطلاحًا: وصْفُ الراوي بما يقتضي ردَّ روايته، أو تليينه، أو تضعيفه.[7]

2-التعديل لغة: التقويم والتسوية، واستعير في المعنويات بمعنى الثَّناء على الشخص بما يدلُّ على حُسْن طريقته في الدِّين والخُلق.[8]
واصطلاحًا: وصْف الراوي بما يقتضي قَبولَ روايته.

فعلم الجرح والتعديل هو: علم يبحث في معرفة أحوال الرُّواة من حيثُ القَبولُ والردّ.
وغرضه: هو الذبُّ عن الشريعة، وصونها وحمايتها، ممَّن يطعن فيها، أو يشوِّه سمعتَها.
القائمون بهذا الواجب: هم علماءُ الحديث، العارفون بأسبابها، ممَّن لديهم خبرةٌ كاملة بالحديث، وعِلله ورجاله.

قال المُعَلَّميِ: "ليس نقْد الرُّواة بالأمر الهيِّن؛ فإنَّ الناقد لا بدَّ أن يكون واسعَ الاطلاع على الأخبار المروية
عارفًا بأحوال السابقين وطُرق الرواية، خبيرًا بعوائد الرواة ومقاصدهم وأغراضهم، وبالأسباب الداعية إلى التساهل والكَذِب، والموقعة في الخطأ
ثم يحتاج إلى أن يعرفَ أحوال الرواي متى وُلِد؟
وبأيِّ بلد؟
وكيف هو في الدِّين والأمانة، والعقل والمروءة؟
ومع مَن سَمِع؟
وكيف كتابُه؟
ثم يعرِف أحوالَ الشيوخ الذين يُحدِّث عنهم، وبلدانهم، ووفياتهم، وأوقات تحديثهم، وعاداتهم في الحديث، ثم يعرف مروياتِ الناس عنهم
ويعرض عليها مرويات هذا الراوي ويعتبر بها، إلى غير ذلك مما يطول شرْحُه، ويكون مع ذلك متيقظًا مرهف الفَهْم، دقيق الفِطنة، مالكًا لنفسه
لا يستميله الهوى ولا يستفزُّه الغضب، ولا يستخفُّه بادر ظنّ، حتى يستوفيَ النظر، ويبلغ المقرّ، ثم يحسن التطبيق في حُكمه، فلا يجاوز ولا يقصِّر.

وهذه مرتبة بعيدة المرام، عزيزة المنال، لم يبلغْها إلاَّ الأفذاذ. [9]

عدالة الرواة وضبطهم
وأهل الحديث - رحمهم الله - عندما تكلَّموا في الرِّجال؛ بحثوا في صِفتين:
1- العدالة.
2- الضبط.

والعدالة: مَلَكة تحمل المرءَ على ملازمة التقوى، ومجانبة الفِسْق، وخوارم المروءة.[10]
قال أبو عبدالله الحاكم - رحمه الله -: "أصْل عدالة المحدِّث أن يكون مسلمًا، لا يدعو إلى بِدعة، ولا يُعلن من أنواع المعاصي ما تسقط به عدالتُه".[11]
قال يحيى بن معين: " آلة العدالة في الحديث: الصِّدْق، والشهرة بالطلب، وترْك البدع، واجتناب الكبائر".[12]
قال أبو العالية: "كنت أرْحلُ إلى الرجل مسيرةَ أيام، فأتفقَّد صلاته، فإن أجده يُحسنها ويقيمها، أقمتُ عليه
وكتبتُ عنه، وإن أجده يضيعها رحلتُ عنه، وقلت: هذا لِغَير الصلاة أضيع[13].
وسُئل ابن المبارك عن العدل فقال:
مَن كان فيه خمس خصال: يشهد الجماعة، ولا يشرب هذا الشراب، ولا تكون في دِينه خربة، ولا يَكْذِب، ولا يكون في عقله شيء".[14]
قال الإمام مالك: "لا يُؤخذ العِلم من أربعة، وخذوا ممَّن سوى ذلك: لا يؤخذ مِن سفيه معلن بالسَّفَه، وإن كان أرْوى الناس
ولا مِن صاحب هوى يدعو الناس إلى هواه، ولا مِن كذَّاب يكذب في أحاديث الناس، وإن كنت لا تتهمه أن يكذبَ على رسول الله...".[15]
قال ابن حبَّان: "ومن المجروحين المعلِن بالفسق والسفه، وإن كان صدوقًا في روايته،؛ لأنَّ الفاسق لا يكون عدلاً
والعدل لا يكون مجروحًا، ومَن خرج عن حدِّ العدالة لا يعتمد على صِدْقه.[16]

ويُفهم من خلال هذه النصوص أنه يخرج بتعريف العدْل ما يلي:
الكافر، الصبي، المجنون، المبتدِع، الفاسق، المتَّهم بالكذب، الكذَّاب، ومخروم المروءة، والله أعلم.

قال الحافظ الذهبي: "ما كلُّ أحد فيه بِدعة، أو هفوة، أو ذنوب، يُقدح فيه بما يوهن حديثه، وليس من شرْط الثقة أن يكون معصومًا"[17].
قال سعيد بن المسيب: "ليس من شريف، ولا من عالِم، ولا ذي سلطان إلاَّ وفيه عيْب ولا بدّ، ولكن من الناس لا تُذكر عيوبه، مَن كان فضله أكثرَ من نقصه، وُهِب نقصه لفضله".[18]
قال الإمام الشافعي: "... فإذا كان الأغلب الطاعة فهو المُعَدَّل، وإذا كان الأغلب المعصية فهو المُجَرَّح".[19]
قلتُ: إذا كان الأئمَّة لم يُسقطوا عدالةَ الراوي بسبب أغليبة حاله على الطاعات، مع علمهم بتقصير كلِّ واحد في هذا الجانب
وإقرارهم في الوقوع على بعضِ المعاصي في الجانب الآخر؛ إذ لا معصوم غير الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - فعدمُ سقوط عدالة مَن وَقَع في المعاصي وهو متأوِّل من باب الأوْلى؛
لأنَّ وقوعه في المحرَّم ليس من قبيل العناد واتباع الشهوات؛ بل بسبب خطئه في الاجتهاد.
قال أبو حاتم الرازي: "جاريتُ أحمد بن حنبل من شرب النبيذ من محدِّثي الكوفة، وسميت له عددًا منهم، فقال: هذه زلاَّت لهم، ولا تسقط بزلاتهم عدالتهم"[20]، والله أعلم.

وتعرف العدالة بأمرين:
1- الاستفاضة والشهرة: كأن يشتهرَ الراوي بطلب العِلم، والاجتهاد فيه، مع الأمانة والثِّقة، بحيث يشيع الثناء عليه.
2- تنصيص أحد العلماء على عدالته: ويكفي تعديلُ الإمام الواحد على القول الراجح، قياسًا على قَبول خبر الثِّقة عند تفرده[21]
بشرط أن يكون هذا العالِم غير متساهل في التعديل، أو التوثيق، وألاَّ يعارض توثيقَه قولُ إمام آخر؛ فعندئذٍ يُطلب الترجيح بضواط التعارض.[22]

أما الضبط فهو نوعان:
1-ضبط صدر: هو الراوي الذي يحفظ ما سمعه مع الضبط والإتقان، بحيث يتمكَّن من استحضار ما حَفِظ متى شاء.
2-ضبط كتاب: وهو صيانته لكتابه منذ سمع فيه، وصحَّحه إلى أن يؤدِّي منه.
وقيَّد ابن حجر الضبط بـ "التام" إشارةً إلى الرتبة العُليا من ذلك[23]، وليس التام المطلق كما فَهِمه بعضُ المعاصرين.

شروط المُعَدِّل والجارِح:
1- أن يكون عدلاً، ورعًا، متيقظًا.
2- أن يكون عارفًا بأسباب الجرْح والتعديل، مُنْصِفًا.
3- أن يكون بريئًا من التعصُّب والهوى، والميل إلى الدنيا.
قال الإمام الذهبي في"ميزان الاعتدال"(1/4): "والكلام في الرُّواة يحتاج إلى ورع تام، وبراءة من الهوى والميل، وخِبرة كاملة بالحديث وعِلله".
وقال في"تذكرة الحفَّاظ" (1/4): "فحق على المحدِّث أن يتورَّع في ما يؤدِّيه، وأن يسأل أهلَ المعرفة والورع؛ ليعينوه على إيضاح مروياته
ولا سبيلَ إلى أن يصير العارف الذي يزكِّي نقلةَ الأخبار ويجرحهم جهبذًا إلاَّ بإدمان الطلب، والفحْص عن هذا الشأن
وكثرة المذاكرة والسهر، والتيقُّظ والفَهْم، مع التقوى والدِّين المتين، والإنصاف والتردُّد إلى مجالس العلماء، والتحرِّي والإتقان، وإلا تفعل:
فَدَعْ عَنْكَ الْكِتَابَةَ لَسْتَ مِنْهَا وَلَوْ سَوَّدْتَ وَجْهَكَ بِالْمِدَادِ قال الله - تعالى -: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]
فإن آنستَ يا هذا من نفسك فَهمًا وصدقًا، ودينًا وورعًا؛ وإلا فلا تتعنّ، وإن غلب عليك الهوى والعصبية لرأي ولمذهب؛ فبالله لا تتعبْ
وإن عرفتَ أنك مُخَلِّط مُخَبِّط، مهمِل لحدود الله؛ فأرِحْنا منك، فبعد قليل ينكشف البهرج، وينكب الزغل، ولا يحيق المكرُ السيِّئ إلاَّ بأهله
فقد نصحتُك، فعِلم الحديث صلف، فأين علم الحديث؟ وأين أهلُه؟ كدتُ ألاَّ أراهم إلاَّ في كتاب، أو تحتَ تراب".

قال ابن حجر في"نزهة النظر" (ص: 113 - 155):
"وينبغي ألاَّ يُقبل الجرح والتعديل إلا مِن عدل متيقِّظ، فلا يُقبل جرْح مَن أفرط فيه؛ فجرح بما لا يقتضي ردَّ حديث المحدِّث
كما لا تُقبل تزكيةُ مَن أخذ بمجرَّد الظاهر؛ فأطلق التزكية.
وليحذر المتكلِّم في هذا الفن من التساهُل في الجرْح والتعديل، فإنَّه إن عدَّل أحدًا بغير ثبت، كان كالمُثبت حكمًا ليس بثابت
فيُخشى عليه أن يدخل في زُمرة مَن روى حديثًا، وهو يظنُّ أنه كذب، وإن جرح بغير تحرُّز، أقدم على الطعْن في مسلم بريء من ذلك، ووسَمه بميسم سوء يبقى عليه عارُه أبدًا.
والآفة تدخل في هذا تارةً من الهوى والغَرَض الفاسد، وكلام المتقدِّمين سالم من هذا غالبًا، وتارةً من المخالفة في العقائد، وهو موجودٌ كثيرًا قديمًا وحديثًا، ولا ينبغي إطلاقُ الجرح بذلك...".
وقال أيضًا: "إنْ صَدَر الجرح من غير عارِف بأسبابه، لم يُعتبر به".
وقال بدر الدين بن جماعة: "من لا يكون عالِمًا بالأسباب، لا يُقبل منه جرْحٌ ولا تعديل، لا بالإطلاق ولا بالتقييد"؛ انتهى.[24]

وقفة
لا بدَّ من العِبرة
وإنَّ من البلايا التي نعيشها في هذا الزمان ما افتتنَ به بعضُ الناس من التكبُّر، والإعجاب بالنفس، والاعتداد بالرأي، وعدم رفْع الرأس لأقوال كِبار العلماء
حتى أدى بهم ذلك إلى العدول عن الطُّرق الشرعية إلى الطرق البِدعية؛ وذلك إما: لجهل، أو عجز، أو غرض فاسد، نسأل السلامة والعافية.
يقول فقيه الزمان محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله تعالى - عن هذه الفِتنة:
ومِن الفِتن ما يَرِد أو ما يعرض لبعض طلبة العلم من الإعجاب بالنفس، والاعتداد بالرأي، واحتقار الآخرين، وعدم رفْع الرأس لأقوالهم
حتى يتصوَّر الإنسان نفسه كأنَّه عالِم الأمة، وجهبذ الأمة، وهذا الداء - أعني: داء العجب - من أشدِّ ما يكون ضررًا على المرء، لا سيَّما طلبة العلم
لأنَّ الرجل إذا أُعجب برأيه احتقر الآخرين، ولم يرفعْ لرأيهم رأسًا، ولا يرى لمخالفتهم بأسًا، وتجده يمشي على الأرْض، فكأنَّه يمشي على الهواء من شدَّة العُجب عنده
حتى إنَّ الرجل ليذهب إلى القوم الذي ليس لهم حَظٌّ من النظر، فيأخذ بهم، ويحتقِر الآخرين الذين عندَهم من العلم والنظر ما ليس عندَه
لأنَّه اطلع على حديث لم يعلم أنَّ له معارِضًا، لم يعلم أنَّه ضعيف، لم يعلم أنَّ له مخصِّصًا، فيأخذ به، ولَيْتَهُ يأخذ به ويَسلَم الآخرون من شرِّه، يأخذ به
ثم تراه يُضَلِّل مَن هو أفضل منه في العِلم والدِّين.
وهذا داءٌ عظيم يوجب لمن اتصف به - نعوذ بالله منه - أن يَعْمَى عن الحق، يَرى الباطل حقًّا، والحق باطلاً.
ولقد سمعتُ عن بعض الصِّغار في العلم أنَّه عورض مرَّة من المرات بقول الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - فقيل له: أنت تقول كذا، وأحمد بن حنبل يقول كذا.
فقال: ومَن أحمد بن حنبل؟! أحمد بن حنبل رجل، وأنا رجل!
فكأنَّ الرجولة عندَه لا تكون إلاَّ بآلة الذَّكَر ولِحْيَةِ الرجل، الرجولة في الدِّين تحتاج إلى علم وتقوى، فَلْنفرِض أنك رجل
وأحمد بن حنبل رجل، لكن هل أنت في مصافِّ الإمام أحمد في العلم، أو في الزُّهْد، أو في التقوى؟!
اتقِّ الله يا أخي في نفسك، واعرِفْ قدرَ نفسك، ومَن أُعجب بنفسه سَقَط من أعين الناس، وهذه من الفِتن العظيمة.
ولهذا؛ تجد الرجل يتحدَّث معك وهو شامخ مرتفع، لا يلين ولا يتبيَّن لديه الحقّ، وذلك بسبب الإعجاب بالنفس
وهو مِن الفتن التي نسأل الله - عزَّ وجلَّ - أن يجعلنا ممَّن عَرَف قدرَ نفسه، وأنزلها في منزلته". اهـ[25].
وأودُّ أنَّ أنبه إلى أنني لم أُرِدْ بهذه النصيحة إلا التبصير، لعلَّ بها تذكيرًا لجاهل، وإيقاظًا لغافل، والله هو الموفِّق للسداد، والهادي إلى السبيل الرشاد.

مشروعية الجرح والتعديل

تستمدُّ مشروعية هذا العلم من أدلَّة القرآن والسُّنة والإجماع.
أدلة القرآن:
1- {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179].

قال الإمام ابن قيم الجوزية في "بدائع التفسير" (1/536 - 537):
"هذه الآية مِن كنوز القرآن، نبَّه فيها على حِكمته - تعالى - المقتضية تمييزَ الخبيث من الطيِّب، وأنَّ ذلك التمييز لا يقع إلاَّ برسله، فاجتبى منهم من شاء
وأرسله إلى عباده؛ فيتميَّز برسالتهم من الطيِّب، والولي من العدوّ، ومَن يصلح لمجاورته وكرامته ممَّن لا يصلح إلا للوقود، وفي هذا تنبيهٌ على الحِكمة في إرسال الرسل
وأنَّه لا بدَّ منه، وأنَّ الله - تعالى - لا يليق به الإخلال، وأنَّ مَن جحد رسله، فما قَدَرَه حقَّ قَدْره، ولا عَرَفه حق معرفته، ونسبَ إليه ما لا يليق به...
فتأمَّل هذا الموضع حقَّ التأمل، وأعطِه حظه من الفِكر، فلو لم يكن في هذا الكتاب سواه، لكان من أجلِّ ما يُستفاد، والله الهادي إلى سبيل الرشاد".

2- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6]
وهذه الآية أصْلٌ في اعتبار العدالة والضبط في الرواة، كما أنَّها دليلٌ في وجوب التبيُّن والتثبت من حقيقة خبر الفاسق.[26]

قال ابن تيمية: "بل هذه دلالةٌ واضحة على أنَّ الإصابة بنبأ العدل الواحد لا يُنهى عنها مطلقًا، وذلك يدلُّ على قَبول شهادة العدل الواحد...".[27]
وقال أيضًا: "هذا نصٌّ في أنَّ الفاسق الواحد يجب التبيُّن في خبره، وأما الفاسقان فصاعدًا، فالدلالة عليه تحتاج إلى مقدِّمة أخرى...،
وإنَّما أمر بالتثبت عند خبر الفاسق الواحد، ولم يأمر به عندَ خبر الفاسقين؛ فإنَّ خبر الاثنين يوجب من الاعتقاد ما لا يوجبه خبرُ الواحد". اهـ.[28]

3- قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام: 55].
أي: نوضِّحها ونبينها، ونميِّز بين طريق الهُدى من الضلال، والغي والرشاد؛ ليهتدي بذلك المهتدون، ويتبيَّن الحق الذي ينبغي سلوكُه
{وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} الموصلة إلى سخط الله وعذابه، فإنَّ سبيل المجرمين إذا استبانتْ واتضحت، أمكن اجتنابها، والبُعْد منها
بخلاف ما لو كانتْ مشتبهةً ملتبسة، فإنَّه لا يحصل هذا المقصود الجليل.[29]

والواجب على أهل العلم: تمييزُ الحق، وإظهار الحق؛ ليهتديَ بذلك المهتدون، ويرجع الضالون، وتقوم الحُجَّة على المعاندين؛ لأنَّ الله فصَّل آياته، وأوضح بيناته
ليميزَ الحق من الباطل، ولتستبينَ سبيل المهتدين من سبيل المجرمين، فمَن عمل بهذا مِن أهل العلم، فهو من خلفاء الرسل، وهداة الأمم.

ومَن لبس الحق بالباطل، فلم يميِّز هذا مِن هذا، مع علمه بذلك، وكَتَم الحق الذي يعلمه، وأُمر بإظهاره - فهو مِن دعاة جهنم؛ لأنَّ الناس لا يقتدون في أمر دِينهم بغير علمائهم.[30]

4- {وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2]، وقال تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95].
ففي الآية الأولى يأمر الله - تعالى - بالتثبُّت في الأخبار، وفي الآيات الأخرى يطلب الله - تعالى - العدلَ والرِّضا في الشهود.
ومعلوم أنَّ الأمر بالتثبت في الأخبار في الآية الأولى عامّ، فالأخبار التي تُنقل عن الله ورسوله تدخل فيها دخولاً أوليًّا.
وطلب الرِّضا والعدل في حديث النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - الذي هو دِينٌ للأمَّة، وتشريع لها، وهو المصدر الثاني في التشريع - أوْلَى من أن يُطلب في الشهادة.[31]

أدلة السنة:
1- ما اتَّفق عليه الشيخان من حديث عائشة - ا - أَنَّ رَجُلاً اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِىِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - ف
َقَالَ النَّبِىُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - : ((بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَة))، فَلَمَّا دَخَلَ انْبَسَطَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وَكَلَّمَهُ، فَلَمَّا خَرَجَ، قُلْتُ: يا رسولَ اللَّهِ، لَمَّا اسْتَأْذَنَ قُلْتَ:
((بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ))، فَلَمَّا دَخَلَ انْبَسَطْتَ إِلَيْه؟! فقال: ((يَا عَائَِشة، مَتىَ عَهِدَتِنِي فَحَّاشًا؟! إِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ القِيَامَةِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ شَرِّهِ)).[32]
وجه الدلالة من الحديث:
أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - تكلَّم في ذلك الرجل على وجه الذمِّ لَمَّا كان في ذلك مصلحة شرعية، وهي التنبيه إلى سوء خُلقه؛ ليحذرَه السامع.[33]

2- ما أخرجه مسلم من حديث فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ أَنَّ أبا عَمْرِو بن حَفْصٍ طَلَّقَها الْبتَّةَ... فقال لها النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - :
((فَإِذَا حَلَلْتِ فَآذِنِينِي))، قَالَتْ: فَلَمَّا حَلَلْتُ ذَكَرْتُ لَهُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِى سُفْيَان، وَأَبَا جَهْمٍ خَطَبَانِي، فقال رَسولُ اللَّهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - :
((أَمَّا أبو جَهْمٍ فلا يَضَعُ عَصاهُ عن عاتَقِه، وَأَمَّا مُعاويَةُ فَصُعْلُوكٌ لا مالَ له، انْكِحِي أُسَامَةَ بنَ زَيْد..)) الحديث.[34]
وجه الدلالة من الحديث:
أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ذكر معاوية وأبا جَهْم - ا - بما فيهما؛ لتحقُّق المصلحة، وهي المشورة على المستشير بالأصلح له
ولذلك قال لها النبي - عليه الصلاة والسلام - : ((انكحي أسامة)).[35]

إجماع أئمة الحديث:
فقد أجمع أئمَّة الحديث قاطبةً على أنَّ جرح الرواة وأهل البِدع والفسَّاق لا يُعدُّ من الغِيبة المحرَّمة، بل هو واجبٌ عند الحاجة ومستحبّ.

ومن هؤلا الأئمة الذين صرَّحوا بذلك، وقاموا بهذا الواجب ما يلي:
1- شُعْبة بن الحجَّاج (ت 160 هـ).[36]
2- سفيان الثوري (ت161هـ).[37]
3- مالك بن أنس (ت179هـ).[38]
4- عبدالله بن المبارك (ت181هـ).[39]
5- يحيى بن سعيد القَطَّان (ت198هـ).[40]
6- عبدالرحمن بن مهدي (ت189هـ).
7- يحيى بن معين (ت233هـ).
8- علي بن المَديني (ت234هـ).[41]
9- أحمد بن حنبل (ت241هـ).[42]
10- محمد بن إسماعيل البخاري (ت256هـ).[43]
11- مُسْلِم بن الحجَّاج النيسابوري (261هـ).[44]
12- أبو زرعة الرازي (ت264هـ).
13- أبو داود السِّجْستاني (ت 275هـ).
14- أبو حاتم الرازي (ت277هـ).
15- النسائي (ت303هـ).[45]
16- ابن أبي حاتم (ت327هـ).[46]
17- ابن حبان (354هـ).[47]
18- الدارقطني (ت385هـ).[48]
19- أبو عبدالله الحاكم (ت405هـ).[49]
20- الخطيب البغدادي (463هـ).[50]
21- النووي (ت676هـ).[51]
22- الذهبي (748هـ).[52]
23- العراقي (ت806هـ).[53]
24- ابن حجر (ت852هـ).[54].
25- السخاوي (ت901هـ)[55].
وغيرهم من العلماء.

فوائد علم الجرح والتعديل

ولعِلم الجرْح والتعديل عدَّة فوائد:
1- معرفة ما وقع من روايةِ الرُّواة ممَّن يجب قَبول خبرِه، وممن يجب ردُّه، ووممَّن يجب التوقُّف فيه.
2- معرفة ما صحَّتْ من الوقائع التاريخية، بسبب غلبة التساهُل في نقلها.
3- أنَّ هذا العلم فرْضُ كِفاية - كما صرَّح غيرُ واحد من الأئمة.
4- الحث على المطالبة بالشاهد والبيِّنة والبرهان، ومن ثَمَّ استخدام منهج التحري والتثبت.
5- ردُّ خبر الفاسق، والكذَّاب، والكافر من باب أوْلى.
6- الحث على الاهتمام بتبليغ أمورِ الدِّين بسند صحيح متصل.
7- تحرير العقل من سلطان العادة، والتقليد، والوهْم، ومن ثَمَّ دعوته إلى التفكُّر والتأمُّل، والنظر والبحث.
8- اكتساب الخِبرة بالرجوع إلى أهل الرِّواية والدراية في تحرير المسائل، فذلك علم يُسأل عنه أهله أينما كانوا.
9- أنَّ الصحابة يَرجِع إليهم الفضْل في بَدْء عِلم الجرح والتعديل.
10- معرفة بعض الوقائع المتعلِّقة ببعض الصحابة، مما ينطوي عليه الحُكم بما لا يليق بهم، مما وضعه أهلُ البدع من الرافضة الأنجاس.
11- منهج الصحابة التشدُّد في قَبول الأخبار، لدرجة طلب اليمين والبيِّنة، فَسَنُّوا بالتالي للناس سُنَّة التثبُّت.
12- جرْح الرواة وأهل البِدع والفُسَّاق ليس من الغِيبة المحرَّمة، بل من النصيحة.

ـــــــــــــــــــــــــ
[1] أخرجه الخطيب في"الكفاية" (ص: 14)، ومحمد بن نصر المروزي في "السُّنة" (104).
[2] تذكرة الحفاظ؛ للذهبي (1/2)، والمدخل؛ للحاكم (ص: 64).
[3] وقد وردتْ هذه القصة من أكثر من عشرين طريقًا، كلها تنتهي إلى قبيصة، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وصحَّحه ابن حبان.
والصحيح: أنَّ هذه القصة ضعيفة؛ لأنَّ قبيصة لم يدرك أبا بكر - - على الصحيح، فتكون قصته مرسلة؛ أي: ضعيفة، وضعَّف القصةَ بهذه العِلة: عبدُالحق الإشبيليُّ، وابن القطَّان، وابن حَزْم في"المحلَّى"، والمِزي، والعلائي، وابن عبدالبر (يُنظر: البدر المنير لابن الملقِّن (7/207-208)، والعلاَّمة الألباني في "ضعيف الترمذي" (2197)، وغيرها من كتبه.
[4] تذكرة الحفاظ؛ للذهبي (1/6)، والحاكم في "المدخل" (ص: 64).
[5] المجروحين؛ لابن حبان (1/38 - 58) ملخصًا.
[6] معجم مقاييس اللغة؛ لابن فارس (ص: 196)، و"خلاصة التأصيل في علم الجرح والتعديل"؛ للشريف حاتم العوني (ص: 6).
[7] ضوابط الجرح والتعديل؛ للدكتور عبدالعزيز بن محمد بن إبراهيم العبداللطيف (ص: 21).
[8] معجم مقاييس اللغة؛ لابن فارس (ص/718)،و"خلاصة الأصيل....(ص: 6).
[9] مقدمة تحقيقه لكتاب الجرح والتعديل.
[10] نزهة النظر لابن حجر (ص: 29).
[11] معرفة علوم الحديث (ص: 53).
[12] الكفاية (ص:101).
[13] الكامل لابن عدي (1/54).
[14] الكفاية (ص: 79).
[15] الكامل لابن عدي (1/92).
[16] كتاب المجروحين (1/79).
[17] ميزان الاعتدال (3/141).
[18] الكفاية (ص: 79).
[19] المصدر السابق (ص: 79).
[20] الجرح والتعديل (2/26).
[21] الكفاية (ص: 36).
[22] ضوابط الجرح والتعديل (ص: 36).
[23] نزهة النظر (ص: 38).
[24] الرفع والتكميل (ص: 68 ).
[25] مأخوذ من شريط: "موقف المسلم من الفتن"؛ للشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله تعالى -تسجيلات الخالد الإسلامية، بالمدينة النبوية.
[26] ضوابط الجرح والتعديل (ص: 27).
[27] مجموع الفتاوى (3/463).
[28] مجموع الفتاوى (4/7).
[29] تفسير السعدي (ص: 258).
[30] تفسير السعدي (ص: 50) بتصرف يسير.
[31] الخلاصة في علم الجرح والتعديل لعلي بن نايف الشهود (ص: 18).
[32] صحيح البخاري (5707،5780)، و مسلم (2591).
[33] ضوابط الجرح والتعديل (ص: 30).
[34] صحيح مسلم (3770).
[35] ضوابط الجرح والتعديل (ص: 30).
[36] الخطيب في "الكفاية" (ص: 91).
[37] التعديل والتجريح لمن خرج له البخاري في الصحيح؛ لأبي الوليد الباجي (1/282) بتحقيق أبي لبابة.
[38] موطأ الإمام مالك برواية محمد بن الحسن (3/462) بتحقيق د/تقي الدين الندوي، و"التعديل والتجريح ..." (1/282).
[39] مقدمة بحر الدم فيمن تكلم الإمام أحمد بمدح أو ذم (ص: 8).
[40] التعديل والتجريح...(1/282).
[41] علم الرجال و أهميته؛ لعبدالرحمن بن يحيى المعلمي (ص: 29 -30) بتعليق عمرو عبدالمنعم.
[42] مقدمة بحر الدم فيمن تكلم الإمام أحمد بمدح أو ذم؛ لابن المبرد (ص: 7).
[43] ذكره الحافظ ابن حجر (10/469).
[44] يُنظر مقدمة صحيحه.
[45] مقدمة الذهبي في ميزان الاعتدال (1/1-2).
[46] مقدمة الجرح والتعديل له (ص: 5).
[47] المجروحين (1/15-17).
[48] الضعفاء و المتروكين له (ص: 11 - 13) بتحقيق الصباغ.
[49] المدخل للحاكم (ص: 63) بتحقيق أبي عاصم الجزائري.
[50] في "الكفاية" (ص/83).
[51] في "رياض الصالحين" (ص/525) بتخريخ الألباني.
[52] مقدمة الذهبي في ميزان الاعتدال (1/1-3)، و"السير"(12/204).
[53] التقييد والإيضاح (باب صفة من تُقبل روايته، ص: 120).
[54] فتح الباري (10/471)،و غيرها من كتبه.
[55] فتح المغيث (3/350).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق